فصل: الشاهد التاسع والتسعون وهو من شواهد سيبويه: فاها لفيك(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثاني والتسعون‏:‏ أجدكما لا تقضيان كراكما

على أن جدكما ليس مصدراً مؤكداً لقوله‏:‏ لا تقضيان بل هو إما منصوب بنزع الخافض، وإما حال، وإما مصدر حذف عامله وجوباً‏.‏

أما كونه ليس مؤكداً لمضمون الجملة بعده فلشيئين‏:‏ الأول‏:‏ أن قوله أجدكما لو جعل مؤكداً لمضمون ما بعده لكان مؤكداً لمضمون المفرد وهو الفعل فقط، لا لمضمون الجملة، كما بينه الشارح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إنما يكون المصدر مؤكداً لغيره إذا أكد معنى القول الذي هو مضمون الجملة، ولا يجوز أن يقدر أجدكما أقول لا تقضيان، لفساد المعنى؛ لأن القول من المتكلم، وعدم القضاء من المخاطب‏.‏

وأما كونه منصوباً بنزع الخافض فلأنه في معنى حقاً، وهو على تقدير في وجدك وحقاً متقاربان معنى، فالأنسب تقاربهما في الإعراب أيضاً‏.‏

وأما كونه حالاً فمعناه‏:‏ لا تقضيان كراكما جادين، فعامل الحال الفعل الذي بعدها، وصاحبها ضمير التثنية‏.‏

وأما الثالث فهو مؤكد لنفسه؛ لأنه أكد مضمون المفرد لا مضمون الجملة، لأنه أكد الفعل بدون الفاعل، والفعل يدل وحده على الحدث والزمان‏.‏

هذا محصل كلامه‏.‏ والحالية لا تطرد في كل موضع، ولهذا ذهب الإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب، إلى أن انتصاب أجدكما إما بنزع الخافض وإما بفعله المحذوف‏.‏

والمفهوم من كلام بن جني على هذا البيت في إعراب الحماسة‏:‏ أن أجدكما منصوب بفعله المحذوف‏.‏ لكن جعله جملة لا تقضيان حالاً غير جيد، لأنها مقيدة وجدكما قيد لها، والمقيد هو أصل الكلام‏.‏ ثم جوابه عن إيراده على جعله الجملة حالاً أنها مصدرة بعلم الاستقبال، بأن الشاعر أراد امتداد الحال فلما لاحظ حال الاستمرار والاستقبال أتى بلا، غير صحيح؛ فإن لا ليست للاستقبال على الصحيح، والمضارع المنفي بها يقع حالاً نحو‏:‏ مالكم لا ترجون لله وقارا ‏.‏ وقد تعسف أيضاً في نحو أجدك لا تفعل بأنه على إرادة استمرار حكاية الحال الممتدة فيما مضى‏.‏

قال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ ولا تفعل عند أبي علي حال وعلى إضمار أن فحذف أن وارتفع الفعل‏.‏

واعلم أن صنيع الشارح المحقق، فيه رد لمن جعل - كابن الحاجب - أجدك لا تفعل كذا، من قبيل المصدر المؤكد لغيره، قال ابن الحاجب في الإيضاح‏:‏ أصله لا تفعل كذا جداً، لأن الذي ينبغي الفعل عنه يجوز أن يكون بجد منه ويجوز أن يكون من غير جد فإذا قال‏:‏ جداً فقد ذكر أحد المحتملين؛ ثم أدخلوا همزة الاستفهام إيذاناً بأن الأمر ينبغي أن يكون كذلك، على سبيل التقرير؛ فقدم المصدر من أجل همزة الاستفهام فصار‏:‏ أجدك لا تفعل، ثم لما كان معناه تقرير أن يكون الأمر على وفق ما أخبر صار في معنى تأكيد كلام المتكلم، فيتكلم به من يقصد إلى التأكيد وإن كان ما تقدم هو الأصل الجاري على قياس لغتهم‏.‏

ويجوز أن يكون معنى أجدك في مثله‏:‏ أتفعله جداً منك، على سبيل الإنكار لفعله جداً، ثم نهاه عنه وأخبر عنه بأنه لا يفعل، فيكون أجدك توكيداً لجملة مقدرة دل سياق الكلام عليها‏.‏ ومما يدل على أنهم يقولون أفعله جداً قول أبي طالب‏:‏

إذن لاتبعناه على كل حالة‏.‏‏.‏‏.‏البيت

هذا كلامه‏.‏

وقوله ثم نهاه عنه يفهم منه أن أجدك يقع بعدها النهي، وكذا قول بعضهم، أجدك هل تفعل كذا، يفهم منه أن الاستفهام يقع بعده‏.‏

وقد قال الشارح المحقق‏:‏ إن أجدك لا يستعمل إلا مع النفي‏.‏ ولم أر هذا التقيد لغيره، وظاهره‏:‏ سواء كان النافي ل وم ولن؛ كقوله‏:‏

أجدك لن ترى بثعيلبات *** ولا بيدان ناجيةً ذمول ولم، كقول الأعشى‏:‏

أجدك لم تغتمض ليلةً *** فترقدها مع رقادها

فإن قلت‏:‏ قد وقع بعدها الاستفهام في هذا البيت الذي أورده ثعلب في فصيحه وهو‏:‏

أجدك ما لعينيك لا تنام *** كأن جفونها فيها كلام

قلت‏:‏ النفي الذي يقع بعد أجدك موجود وهو قوله لا تنام؛ والاستفهام الثاني سؤال عن علة عدم نوم عينه، ومثله قول كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه في غزوة الطائف‏:‏

أجدهم أليس لهم نصيحٌ *** من الأقوام كان لنا عريفا

يخبرهم بأنا قد جمعن *** عتاق الخيل والبخت الطروفا

وفي الارتشاف‏:‏ ولا يستعمل أجدك إلا مضافاً، وغالباً بعده ل ولم ولن‏.‏ وفي النهاية لابن الخباز قال الأعشى‏:‏

أجدك ودعت الدمى والولائدا

ودعت موجبٌ، وجاء مع لا كثيراً‏.‏

وقد ذكر صاحب الصحاح وغيره‏:‏ أن أجدك يجوز في جيمه الكسر والفتح، لكن الكسر هو الفصيح، ولهذا قال ثعلب في فصيحه‏:‏ وما أتاك أجدك فمكسور وما أتاك وجدك فمفتوح‏.‏ وهو من الجد ضد الهزل، وأصله من الجد في الأمر بمعنى الاجتهاد فيه، لأن الهازل لا يبذل الاجتهاد في شيء‏.‏

وأغرب صاحب القاموس حيث جعله من جاده بمعنى حاققه، ثم قال‏:‏ وأجدك لا تفعل، لا يقال إلا مضافاً؛ وإذا كسر استحلفه بحقيقته، وإذا فتح استحلفه ببخته انتهى‏.‏ وهذا شيء انفرد به؛ وكأنه جنح لما ذهب إليه الشلوبين حيث زعم أن فيه معنى القسم، ولذلك قدم‏.‏

وهذا المصارع من شعر لقس بن ساعدة‏.‏ وهو‏:‏

خليلي هبا طالما قد رقدتم *** أجدكما لا تفيضان كراكما

ألم تعلما أني بسمعان مفرد *** ومالي فيه من خليل سواكما

مقيم على قبريكما لست بارح *** طوال الليالي ويجيب صداكما

أبكيكما طول الحياة، وما الذي *** يرد على ذي لوعةٍ أن بكاكما

كأنكما، والموت اقرب غائبٍ *** بروحي في قبريكماٍ قد أتاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعي *** كأن الذي يسقي العقار سقاكما

فلو جعلت نفسٌ لنفسٍ وقايةً *** لجدت بنفسي أن تكون فداكما

في سيرة ابن سيد الناس بسنده إلى ابن عباس في حديث الجارود بن عبد الله لما قدم مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة، والحديث طويل، إلى أن قال ابن عباس‏:‏ وقام رجل أشدق أجش الصوت فقال‏:‏ لقد رأيت من قس عجباً‏:‏ خرجت أطلب بعيراً لي حتى إذا عسعس الليل وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول‏:‏

يا أيها الراقد في الليل الأحم *** قد بعث الله نبياً في الحرم

من هاشم أهل الوقار والكرم *** يجلو دجنات الليالي والبهم

قال‏:‏ فأدرت طرفي فما رأيت له شخصاً‏.‏ فأنشأت أقول‏:‏

يا أيها الهاتف في دجى الظلم *** أهلاً وسهلاً بك من طيفٍ ألم

بين هداك الله في لحن الكلم *** من الذي تدعو إليه تغتنم

فإذا أنا بنحنحة وقائلٍ يقول‏:‏ ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحبور؛ صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور؛ صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله؛ فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر، أهل المدر والوبر‏.‏ ثم أنشأ يقول‏:‏

الحمد لله الذي *** لم يخلق الخلق عبث

ولم يخلنا سدى *** من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمد *** خير نبي قد بعث

صلى عليه الله م *** حج له ركبٌ وحث

قال‏:‏ ولاح الصباح فإذا أنا بالفنيق، يشقشق إلى النوق؛ فملكت خطامه وعلوت سنامه؛ حتى إذا لغب فنزلت في روضة خضرة؛ فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة، وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض وهو يقول‏:‏

يا ناعي الموت والأموات في جدثٍ *** عليهم من بقايا بزهم خرق

دعهم، فإن لهم يوماً يصاح بهم *** فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا

حتى يعودوا لحال غير حالهم *** خلقاً جديداً كما من قبله خلقوا

منهم عراةٌ، ومنهم في ثيابهم‏:‏ *** منها الجديد ومنها المنهج الخلق

قال‏:‏ فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام؛ وإذا أنا بعين خرارة في أرض خوارة؛ ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين يلوذان به؛ وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء‏.‏ فضربه بالقضيب الذي في يده وقال‏:‏ ارجع ثكلتك أمك‏!‏ حتى يشرب الذي ورد قبلك؛ فرجع ثم ورد بعده‏.‏ فقلت له‏:‏ ما هذان القبران‏؟‏ قال‏:‏ هذان قبرا أخوين كانا لي، يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان لا يشركان بالله عز وجل شيئاً، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما‏!‏ ثم نظر إليهما وجعل يقول‏:‏

خليلي هبا طالما قد رقدتم *** أجدكما لا تقضيان كراكما

الأبيات السابقة‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ رحم الله قساً‏!‏ إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده‏.‏ انتهى‏.‏

الأمة‏:‏ الشخص المنفرد بدين، أي‏:‏ يبعث واحداً يقوم مقام جماعة‏.‏ والأجش‏:‏ الغليظ الصوت‏.‏ وعسعس الليل‏:‏ أدبر؛ ويأتي بمعنى أقبل، فهو ضد‏.‏ والأحم‏:‏ الأسود‏.‏ والدجنة بضمتين وتشديد النون‏:‏ الظلمة، وكذلك البهمة وجمعها بهم‏.‏ ولحن القول، قال الأزهري‏:‏ هو كالعنوان والعلامة تشير بها فيظن المخاطب لغرضك‏.‏ والنجيب‏:‏ الكريم من الإبل‏.‏ والحاجب الأقمر‏:‏ أراد أنه مفروق ما بين الحاجبين فيكون أبلج نيرا‏.‏ والفنيق‏:‏ الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته‏.‏ ويشقشق‏:‏ يهدر بشقشقته‏.‏ ولغب‏:‏ تعب‏.‏ والعين الخرارة‏:‏ الغزيرة النبع، من الخرير وهو صوت الماء‏.‏ والأرض الخوارة‏:‏ اللينة السهلة، من خار يخور‏:‏ إذا ضعف‏.‏

وهبا‏:‏ أمر مسند إلى ضمير الخليلين، من الهب، يقال هب من نومه من باب قتل‏:‏ إذا استيقظ‏.‏ وطالما‏:‏ قال التبريزي في شرح الحماسة‏:‏ إن جعلت ما مصدرية كتبت منفصلة، وإن جعلت كافة فمتصلة‏.‏ والرقود‏:‏ النوم في ليل ونهار، وخصه بعضهم بنوم الليل؛ والأول هو الحق، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظاً لأن أعينهم مفتحة وهم نيام‏.‏ وتقضيان‏:‏ من قضيت‏.‏ وطري‏:‏ إذا بلغته ونلته‏.‏ والكرى‏:‏ النوم؛ قالوا‏:‏ أول النوم النعاس، والوسن ثقل النعاس، ثم الترنيق وهو مخالطة النعاس للعين، ثم الكرى والغمض وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم الهجود والهجوع، وهو النوم الغرق‏.‏

وسمعان بفتح السين‏.‏ موضع‏.‏ وبارحاً بالموحدة والمهملة‏:‏ فاعل من برح الشيء يبرح من باب تعب براحاً‏:‏ إذا زال من مكانه‏.‏ وطوال الليالي بفتح الطاء بمعنى الطول بضمهما، وهو منصوب على الظرفية؛ يقال‏:‏ لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر؛ وهما بمعنى؛ يريد إنني مقيم أبداً‏.‏ وأو بمعنى إلى، وبمعنى إلا، ويجيب منصوب بأن بعدها‏.‏ والصدى هنا بمعنى ما يبقى من الميت في قبره، ومنه قول النمر بن تولب الصحابي رضي الله عنه‏:‏

أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ *** بعيداً نآني صاحبي وقريبي

ترى أن ما أبقيت لم أك ربه *** وأن الذي أنفقت كان نصيبي

وله معان أخر‏:‏ أحدهما ذكر البوم؛ ثانيهما‏:‏ حشوة الرأس، يقال لذلك الهامة والصدى، وتأويل ذلك عند العرب في الجاهلية‏:‏ أن الرجل كان عندهم إذا قتل فلم يدرك به الثأر، أنه يخرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة والذكر الصدى فيصيح على قبره‏:‏ اسقوني اسقوني‏!‏ فإن قتل قاتله كف ذلك الطائر‏.‏ قال‏:‏

ياعمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي *** أضربك حتى تقول الهامة اسقوني

ثالثهما ما يرجع عليك من الصوت إذا كنت بمتسع من الأرض وبقرب جبل‏.‏ رابعها‏:‏ بمعنى العطش، مصدر صدى يصدى‏.‏ والصدأ بالهمزة‏:‏ صدأ الحديد وما أشبهه، كذا في الكامل للمبرد‏.‏

وأبكيكما، قال الأصمعي‏:‏ بكيت الرجل وبكيته بالتشديد، كلاهما إذا بكيت عليه‏.‏ وما اسم استفهام مبتدأ، والذي خبره، وبالعكس؛ والمعنى‏:‏ أي شيء الذي يرده البكاء على ذي اللوعة‏؟‏ وهي الحرقة‏.‏ وروى ذي عولة وهي رفع الصوت بالبكاء بمعنى العويل‏.‏ أن بكاكما‏:‏ بفتح الهمزة مصدرية ومؤولها فاعل يرد؛ وروى بكسر الهمزة، فهي شرطية والجواب مدلول عليه بأبكيكما، وفاعل يرد ضمير مفهوم من أبكيكما وهو البكاء، ويجوز أن يكون دل عليه قوله أن بكاكما‏.‏

وقوله كأنكما‏.‏ كأن هنا للتقريب، وجملة قد أتاكما خبر كأن، وفاعل أتى ضمير الموت، والظرفان متعلقان به، وجملة والموت أقرب غائب، اعتراضية‏.‏ والعقار بالضم‏:‏ الخمر‏.‏

والفدى بكسر الفاء وفتحها وبالقصر‏:‏ مصدر فداه من الأسر يفديه‏:‏ إذا استنقذه بمال، واسم ذلك المال الفدية وهو عوض الأسير؛ وأما الفداء بالكسر والمد فمصدر فاديته مفاداة وفداء‏:‏ أخذت فديته وأطلقته؛ وقال المبرد‏:‏ المفاداة‏:‏ أن تدفع رجلاً وتأخذ رجلاً، والفدى‏:‏ أن تشتريه، وقيل هما واحد‏.‏

تنبيه أورد أبو تمام في الحماسة هذه الأبيات على غير هذا النمط وقال‏:‏ ذكروا أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان، فآخيا بها دهقاناً في موضع يقال له راوند، فمات أحدهما وبقي الآخر والدهقان ينادمان قبره، ويشربان كأسين ويصبان على قبره كأساً؛ فمات الدهقان فكان الأسدي ينادم قبريهما ويشرب قدحاً ويصب على قبريهما قدحين، ويترنم بهذا الشعر‏:‏

خليلي هبا طالما قد رقدتم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

ألم تعلما ما لي براوند كله *** ولا بخزاق من صديق سواكما‏؟‏

أصب على قبريكما من مدامة *** فإلا تنالاها ترو جثاكما

أقيم على قبريكما‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وأبكيكما حتى الممات وما الذي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

جرى النوم بين الجلد واللحم منكم *** كأنكما ساقي عقار سقاكما

وروى الأصبهاني في الأغاني بسنده إلى يعقوب بن السكيت، أن هذا الشعر لعيسى بن قدامة الأسدي، قدم قاشان وله نديمان، فماتا فكان يجلس عند قبريهما وهما براوند بموضع يقال له خزاق، فيشرب ويصب على القبرين حتى يقضي وطره ثم ينصرف، وينشد وهو يشرب‏.‏ وروى ما رواه أبو تمام، وزاد عليه‏.‏

تحمل من يبغي القفول وغادرو *** أخا لكما أشجاه ما قد شجاكما

وأي أخٍ يجفو أخاً بعد موته *** فلست الذي من بعد موتٍ جفاكما

أناديكما كيما تجيبا وتنطق *** وليس مجاباً صوته من دعاكما

قضيت بأني لا محالة هالك *** وأني سيعروني الذي قد عراكما

وروى الأصبهاني أيضاً بسنده إلى عبد الله بن صالح البجلي أنه قال‏:‏ بلغني أن ثلاثة نفرٍ من أهل الكوفة كانوا في الجيش الذي وجهه الحجاج إلى الديلم، وكانوا يتنادمون ولا يخالطون غيرهم، وإنهم لعلى ذلك إذا مات أحدهم، فدفنه صاحباه، فكانا يشربان عند قبره فإذا بلغه الكأس هراقاها على قبره وبكيا‏.‏ ثم إن الثاني مات فدفنه الباقي إلى جنب صاحبه؛ وكان يجلس عند قبريهما فيشرب ويصب كأسين عليهما ويبكي ويقول ثم ذكر الأبيات التي تقدم ذكرها، وقال مكان براوند‏:‏ بقزوين قال‏:‏ وقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء‏.‏

قال الأصبهاني‏:‏ وذكر العتبي عن أبيه أن الشعر للحزين بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة؛ وكان أحد نديميه من بني أسد، والآخر من بني حنيفة فلما مات أحدهما كان يشرب ويصب على قبره ويقول‏:‏

لا تصرد هامةً من كأسه *** واسقه الخمر وإن كان قبر

كان حراً، فهوى فيمن هوى *** كل عودٍ ذي شعوبٍ ينكسر

ثم مات الآخر فكان يشرب على قبريهما ويقول‏:‏

خليلي هبا طالما قد رقدتما‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الأبيات

وأما أبو عبيد في معجم ما استعجم، وياقوت في معجم البلدان، فقد نسبا هذه الأبيات للأسدي وذكرا حكايته كأبي تمام؛ ثم قال ياقوت‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ إن هذا الشعر لقس بن ساعدة في خليلين له كانا وماتا‏.‏

وقال آخرون هذا الشعر لنصر بن غالب يرثي به أوس بن خالد وأنيسا وزاد في الأبيات ونقص؛ وهذه روايته بعد البيت الأول‏:‏

أجدكما ما ترثيان لموجع *** حزينٍ على قبريكما قد رثاكما

جرى النوم بين العظم والجلد منكم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ألم تعلما مالي براوند كله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

أصب على قبريكما من مدامةٍ *** فإلا تذوقاها ترو ثراكما

ألم ترحماني أنني صرت مفرد *** وأني مشتاقٌ إلى أن أراكما

فإن كنتما لا تسمعان فما الذي *** خليلي، عن سمع الدعاء نهاكما

أقيم على قبريكما لست بارح ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وأبكيكما طول الحياة وما الذي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال ياقوت راوند‏:‏ بليدة قرب قاشان وأصفهان، قال حمزة‏:‏ أصلها راهاوند، ومعناها الخير المضاعف‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وراوند مدينة بالموصل قديمة بناها راوند الأكبر بن بيوراسف الضحاك‏.‏

وخزاق‏:‏ بضم الخاء وبالزاي المعجمتين وآخره قاف‏:‏ موضع في سواد أضفهان‏.‏ كذا في المعجم لأبي عبيد؛ وأنشد هذا البيت‏.‏ ورأيت في هامشه بخط من يوثق به‏:‏ خزاق اسم قرية من قرى راوند من أعمال أصفهان‏.‏ والجثا بضم الجيم وبالثاء المثلثة‏:‏ جمع جثوة مثلثة الجيم، وهي الحجارة المجموعة، والجسد‏.‏ والدهقان معرب دهجان ومعناه رئيس القرية؛ وفي القاموس‏:‏ الدهقان بالكسر والضم زعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم معرب‏.‏

وقوله ألم تعلما مالي‏:‏ ما نافية، قال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ استعملها بعد العلم وهي مقتضية لمفعوليها لما دخلها من معنى القسم، فكأنه قال‏:‏ والله مالي براوند من صديق غيركما وجاز استعمال العلم في موضع القسم من حيث كانا مثبتين مؤكدين‏.‏ انتهى‏.‏

وقس بن ساعدة إيادي بكسر الهمزة، وإياد حي من معد بن عدنان‏.‏ قال الذهبي‏:‏ قس بن ساعدة أورده ابن شاهين وعبدان في الصحابة‏.‏ وكذلك قال ابن حجر في الإصابة‏:‏ ذكره أبو علي بن السكن وابن شاهين وعبدان المروزي وأبو موسى في الصحابة، وصرح ابن السكن بأنه مات قبل البعثة‏.‏

وفي سيرة ابن سيد الناس بسنده إلى ابن عباس قال‏:‏ قدم الجارود بن عبد الله، وكان سيداً في قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول؛ فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله‏.‏ قال‏:‏ فآمن الجارود وأمن من قومه كل سيد‏.‏ فسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وقال‏:‏ يا جارود، هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً‏؟‏ قالوا‏:‏ كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره، كان من أسباط العرب فصيحاً، عمر سبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب - أي‏:‏ تعبد - كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله؛ ثم أنشأ يقول‏:‏

هاج للقلب من جواه ادكار *** وليالٍ خلالهن نهار

في أبيات آخرها‏:‏

والذي قد ذكرت دل على الله *** نفوساً لها هدى واعتبار

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ على رسلك ياجارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه‏.‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، فإني أحفظه‏:‏ كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته‏:‏ يا أيها الناس اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت أت‏.‏‏.‏ إلى آخر ما أورده من الوعظ‏.‏

والذي في كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني‏:‏ عاش قس بن ساعدة ثلثمائة وثمانين سنة وقد أدرك نبينا صلى الله عليه وسلم، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم حكمته؛ وهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ على عصا، وأول من قال، أما بعد‏.‏ وكان من حكماء العرب‏.‏ وهو أول من كتب من فلان إلى فلان ابن فلان‏.‏

وقال المرزباني‏:‏ ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة‏.‏

وذكر الجاحظ في البيان والتبيين قساً وقومه وقال‏:‏ إن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته‏.‏ وعجب من حسن كلامه وأظهر تصويبه‏.‏ وهذا شرف تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال‏.‏ وإنما وفق الله ذلك لقس لاحتجاجه للتوحيد؛ ولإظهار الإخلاص، وإيمانه بالبعث ومن ثم كان قس خطيب العرب قاطبة‏.‏

وفي نسبه خلاف‏.‏ فقيل قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر وقيل حذافة بن زهر بن إياد بن نزار‏.‏

وقيل هو قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن واثلة بن الطشان بن عوذ بن مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل *** تهددكم إياي وسط المجالس

على أن حقاً ظرف منصوب بتقدير في‏.‏

وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والستين من باب المبتدأ‏.‏

وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والتسعون وهو من شواهد سيبويه‏:‏

دعوت لما نابني مسور *** فلبى، فلبي يدي مسور

على أن لبيك مثنى عند سيبويه لا مفرد ك لدى قلبت ألفها ياء لما أضيفت إلى المضمر، خلافاً ليونس، بدليل بقاء يائها مضافة إلى الظاهر كما في هذا البيت‏.‏

أما الأول فقد قال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ ذهب الخليل وسيبويه والجمهور إلى أن لبيك تثنية لب‏.‏

وحكى سيبويه عن بعض العرب لب على أنه مفرد لبيك غير أنه مبني على الكسر كأمس، وعلق لقلة تمكنه، ونصبه نصب المصدر كأنه قال‏:‏ إجابةً‏.‏ وزعم ابن مالك أنه اسم فعل‏.‏ وهو فاسد لإضافته؛ ويضاف إلى الظاهر تقول‏:‏ لبي زيد، وإلى ضمير الغائب قالوا‏:‏ لبيه‏.‏ ودعوى الشذوذ فيهما باطلة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا مخالف لما قاله ابن هشام في المغني‏:‏ أن شرط مجرور لبي وسعدي وحناني ضمير الخطاب، وشذ‏:‏

دعوني فيا لبي إذا هدرت لهم *** شقاشق أقوامٍ فأسكتها بدري

لعدم الإضافة، ونحو‏:‏

لقلت لبيه لمن يدعوني

لإضافته إلى ضمير الغيبة، كما شذ إضافته إلى الظاهر في قوله‏:‏ فلبى فلبي يدي مسور

وأما الثاني فهو اسم مفرد مقصور عند يونس‏.‏ قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ أصله عنده لببٌ ووزنه فعللٌ، ولا يجوز أن تحمله على فعل لقلة فعل في الكلام وكثرة فعلل، فقلبت الباء التي هي اللام الثانية من لبب ياءً هرباً من التضعيف، فصار لبي، ثم أبدل الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت لبا ثم إنها لما وصلت بالكاف في لبيك وبالهاء في لبيه قلبت الألف ياء، كما قلبت في على ولدى إذا وصلتها بالضمير؛ ووجه الشبه بينهما‏:‏ أنه اسم ليس له تصرف غيره في الأسماء، لأنه لا يكون إلا منصوباً ولا يكون إلا مضافاً، كما أن إليك وعليك ولديك لا تكون إلا منصوبة المواضع ملازمة للإضافة؛ فقلبوا ألفه ياء فقالوا‏:‏ لبيك كما قالوا‏:‏ عليك‏.‏ ونظير هذا كلا وكلتا في قلب ألفهما ياء متى اتصلت بضمير وكانت في موضع نصب وجر، ولم يقلبوا الألف في موضع الرفع ياء لأنهما بعدا برفعهما عن شبه عليك ولديك، إذ كان لاحظ لهن في الرفع‏.‏

واحتج سيبويه على يونس فقال‏:‏ لو كانت ياء إليك بمنزلة ياء عليك ولديك لوجب متى أضفتها إلى المظهر أن تقرها ألفاً، فلبي في هذا البيت بالياء مع إضافته إلى المظهر دلالة على أنه اسم مثنى‏.‏

وأجاب ابن جني في المحتسب‏:‏ بأن من العرب من يبدل ألف المقصور في الوقف ياء فيقول‏:‏ هذه عصي ورأيت حبلي؛ ومنهم من يبدلها واواً فيه أيضاً فيقول‏:‏ هذه عصو وحبلو، وفي الوصل أيضاً نحو هذه حبلو يا فتى، ومنه قراءة الحسن‏:‏ يوم يدعو كل أناسٍ بضم الياء وفتح العين‏.‏ وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس‏.‏

قال أبو علي‏:‏ يمكن يونس أن يقول‏:‏ إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما يقول في الوقف‏:‏ عصى وفتى، كذلك قال‏:‏ فلبي ثم وصل على ذلك‏.‏ هذا ما قاله أبو علي‏.‏ وعليه يقال‏:‏ كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه‏؟‏ وجوابه أن ذلك قد جاء، أنشد أبو زيد‏:‏

ضخم نجاري طيبٌ عنصري

أراد عنصري، فثقل الراء لنية الوقف ثم أطلق ياء الإضافة من بعد‏.‏ وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فجوازه مع المظهر أولى، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر‏.‏ ومثله قوله‏:‏

يا ليتها قد خرجت من فمه

أراد‏:‏ من فمه، ثم نوى، الوقف على الميم فثقلها على حد قولهم في الوقف‏:‏ هذا خالدٌ وهو يجعل، ثم أضاف على ذلك‏.‏ ويروى‏:‏ من فم يضم الميم أيضاً، وفيه أكثر من هذا‏.‏ انتهى‏.‏

فوزن لبيك عندهما فعليك، وعند يونس فعللك‏.‏

واعلم أن الشارح جوز أن يكون أصل لبيك إما إلبابين حذف منها الزوائد وإما من لب بالمكان بمعنى أقام، فلا حذف‏.‏ وينبغي أن يكون المأخوذ منه هذا؛ فإنه لا تكلف فيه، وفعله ووصفه ثابت، أما الفعل فقد روى المفضل بن سلمة في الفاخر‏:‏ أنه يقال‏:‏ لب بالمكان‏:‏ إذا أقام فيه وأنشد قول الراجز‏:‏

لب بأرضٍ ما تخطاها الغنم

وأما الوصف فقد قال صاحب الصحاح‏:‏ ورجل لبٌ، أي‏:‏ لازم للأمر، وأنشد‏:‏

لبا بأعجاز المطي لاحقا

ورجل لبيب مثل لب قال‏:‏

فقلت لها فيئي إليك فإنني *** حرامٌ وإني بعد ذاك لبيب

وقيل‏:‏ هو بمعنى ملب بالحج، من التلبية وحرام‏:‏ بمعنى محرم، وبعد ذاك، أي‏:‏ مع ذاك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مأخوذ من قولهم‏:‏ داري تلب دارك، أي‏:‏ تقابلها؛ فيكون معناه‏:‏ اتجاهي إليك وإقبالي عليك‏.‏ حكاهما المضل في الفاخر، وأسند أولهما إلى الخليل عن أبي عبيد‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إخلاصي لك، من قولهم‏:‏ حسبٌ لباب‏.‏

واختلف في كاف لبيك، فقال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ وهي في لبيك وسعديك وحنانيك الواقع موقع الذي هو خير، في موضع المفعول؛ وفي دواليك وهذاذيك وحنانيك إذا وقعت موقع الطلب، في موضع الفاعل‏.‏ وذهب الأعلم إلى أن الكاف حرف خطاب فلا موضع لها من الإعراب‏.‏ وحذفت النون لشبه الإضافة‏.‏ ويجوز استعمال لبيك وحده، وأما سعديك فلا يستعمل إلا تابعاً للبيك‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله في البيت فلبى هو فعل ماض، من التلبية، وفاعله الضمير العائد إلى مسور قال الشارح المحقق وأما قولهم‏:‏ لبى يلبي فهو مشتق من لبيك، لأن معنى لبى‏:‏ قال لبيك، كما أن معنى سبح وسلم وبسمل‏:‏ قال سبحان الله، وسلام عليك، وبسم الله‏.‏

وهذا مأخوذ من سر الصناعة لابن جني فإنه قال‏:‏ فأما حقيقة لبيت عند أهل الصنعة فليس أصل يائه باء؛ وإنما الياء في لبيت هي الياء في قولهم‏:‏ لبيك وسعديك، اشتقوا من الصوت فعلا مجمعا من حروفه؛ كما قالوا من سبحان الله‏:‏ سبحت، أي‏:‏ قلت سبحان الله؛ ومن لا إله إلا الله‏:‏ هللت، ومن لا حول ولا قوة إلا بالله‏:‏ حوقلت وحولقت؛ ومن بسم الله‏:‏ بسملت؛ ومن - هلم وهو مركب من ها ولم عندنا وهل وأم عند البغداديين - فقالوا‏:‏ هلممت‏.‏

وكتب إلي أبو علي في شيء سألته عنه قال‏:‏ قال بعضهم‏:‏ سألتك حاجة فلا ليت لي، أي قلت لي‏:‏ لا، وسألتك حاجة فلوليت لي، أي‏:‏ قلت لي‏:‏ لولا، قال‏:‏ وقالوا‏:‏ بأبأ الصبي أباه أي‏:‏ قال له بابا‏.‏ وكذلك اشتقوا أيضاً لبيت من لفظ لبيك فجاؤوا في لبيت بالياء التي هي للتثنية‏.‏

ثم قال ابن جني‏:‏ وقول من قال‏:‏ إن لبيت بالحج إنما هو من قولنا ألب بالمكان، إلى قول يونس أقرب منه إلى قول سيبويه‏.‏ ألا ترى أن الياء في لبيك عند يونس إنما هي بدل من الألف المبدلة من الياء المبدلة من الباء الثالثة في لبب‏.‏ انتهى‏.‏

وعندي أن التلبية من مادة معتلة غير مادة المضاعف؛ ونظائره كثيرة مثل صر وصرى؛ فإن لبى غير منحصر معناه في قال لبيك، بل يأتي بمعنى أقام، ولازم مثل ألب بالمكان، قال طفيل الغنوي، أنشده المفضل في الفاخر‏:‏

رددن حصيناً من عدي ورهطه *** وتيم تلبي في العروج وتحلب

أي‏:‏ تلازمها وتقيم بها‏.‏

وقوله لما نابني‏:‏ اللام للتعليل‏.‏ واستشهد به صاحب الكشاف على أن اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدعوكم ليغفر لكم‏}‏ تعليله كما في هذا البيت‏.‏ ومسور بكسر الميم‏:‏ اسم رجل‏.‏ والفاء الأولى عطفت جملة لبى على جملة دعوت؛ والثانية سببية ومدخولها جملة دعائية؛ يقول‏:‏ دعوت مسوراً لدفع ما نابني فأجابني، أجاب الله دعاءه‏!‏ قال الشاطبي في شرح الألفية‏:‏ روي في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إذا دعا أحدكم أخاه فقال لبيك فلا يقولن لبي يديك، وليقل أجابك الله بما تحب ‏.‏ وهذا يشعر بأن عادة العرب إذا دعت فأجيبت بلبيك أن تقول‏:‏ لبي يديك؛ فنهى عليه الصلاة والسلام عن هذا القول وعوض منه كلاماً حسناً‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ يقول‏:‏ دعوت مسوراً لدفع نائبه نابتني فأجابني بالعطاء فيها وكفاني مؤنتها‏.‏ وكأنه سأله في دية‏.‏ وإنما لبى يديه لأنهما الدافعتان إليه ما سأله منه؛ فخصهما بالتلبية لذلك‏.‏

وهذا البيت من الأبيات الخمسين التي لا يعرف لها قائل‏.‏ وقريب منه هذا البيت وهو‏:‏

دعوت فتى أجاب فتى دعاه *** بلبيه أشم شمردلي

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الرابع والتسعون

إذا شق بردٌ شق بالبرد مثله *** دواليك حتى كلنا غير لابس

على أن دواليك منصوب بعامل محذوف‏.‏

قال‏:‏ يقال دواليك أي‏:‏ تداول الأمر دوالين؛ ظاهره أن دواليك بدل من فعل الأمر‏.‏ وليس كذلك كما يعلم مما سيأتي‏.‏

اعلم أن دوالين مثنى دوال؛ والدوال بالكسر‏:‏ مصدر داولت الشيء مداولة ودولا، وبالفتح‏:‏ اسم مصدر‏.‏ وروي بالوجهين ما أنشده أبو زيد في نوادره لضباب بن سبيع بن عوف الحنظلي‏:‏

جزوني بما ربيتهم وحملتهم *** كذلك ما أن الخطوب دوال

والتداول‏:‏ حصول الشيء في يد هذا تارة وفي يد ذاك أخرى؛ والاسم الدولة بفتح الدال وضمها، ومنهم من يقول‏:‏ الدولة بالضم في المال وبالفتح في الحرب؛ ودالت الأيام مثل دارت وزناً ومعنى‏.‏ ودواليك معناه مداولة بعد مداولة؛ وثني لأنه فعل اثنين‏.‏

قال الشاطبي‏:‏ ولا تجوز إضافته إلى الظاهر، لا تقول‏:‏ دوالي زيد‏.‏ وقال الأعلم‏:‏ الكاف للخطاب ولذلك لم يتعرف بها ما قبلها‏.‏

وأنشد سيبويه هذا البيت على أن دواليك مصدر وضع موضع الحال‏.‏

ودل قوله‏:‏ إذا شق برد، على الفعل الذي نصب دواليك، أي‏:‏ نشقهما متداولين، بإضمار فعل له ولها يعمل في دواليك‏.‏ وروي‏:‏

إذا شق بردٌ شق بالبرد برقع

يعني أنه يشق برقعها وهي تشق برده‏.‏ ومعناه‏:‏ أن العرب يزعمون أن المتحابين إذا شق كل واحد منهما ثوب صاحبه دامت مودتهما ولم تفسد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كان من شأن العرب إذا تجالسوا مع الفتيات للتغزل أن يتعابثوا بشق الثياب لشدة المعالجة عن إبداء المحاسن‏.‏ وقيل إنما يفعلون ذلك ليذكر كل واحد منهما صاحبه به‏.‏

وقال العيني‏:‏ كانت عادة العرب في الجاهلية أن يلبس كل واحد من الزوجين برد الآخر، ثم يتداولان على تخريقه حتى لا يبقى فيه لبس، طلباً لتأكيد المودة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ يزعم النساء إذا شق أحد الزوجين عند البضاع شيئاً من ثوب صاحبه دام الود بينهما؛ وإلا تهاجرا‏.‏

وشق في الموضعين بالبناء للمفعول، وبردٌ ومثله‏:‏ نائبا الفاعل، والباء للمقابلة‏.‏ والبرد‏:‏ الثوب من أي شيء كان، وقال أبو حاتم‏:‏ لا يقال له برد حتى يكون فيه وشي، فإن كان من صوف فهو بردة‏.‏ وحتى ابتدائية وكلنا مبتدأ، وغير لابس خبره‏.‏

وروى العيني‏:‏ ليس للبرد لابس كصاحب الصحاح‏.‏ وهو غير صحيح، فإن القوافي مجرورة‏.‏ وأثبت صاحب الصحاح هذاذيك موضع دواليك والصواب ما ذكرنا‏.‏ وأنشده سيبويه أيضاً كصاحب الصحاح، فيكون فيه إقواء‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لسحيم عبد بني الحسحاس‏.‏ وأولها‏:‏

كأن الصبيريات يوم لقينن *** ظباءٌ حنت أعناقها للمكانس

وهن بنات القوم إن يشعروا بن *** يكن في ثياب القوم إحدى الدهارس

وقبل البيت الشاهد‏:‏

فكم قد شققنا من رداءٍ منيرٍ *** على طفلةٍ ممكورةٍ غير عانس

قال ابن السيد‏:‏ أراد بالصبيريات‏:‏ نساء بني صبيرة بن يربوع‏.‏ وحنت‏:‏ أمالت‏.‏ والمكانس‏:‏ جمع مكنس بمعنى الكناس، وهو موضع الظباء في الشجر يكتن فيه ويستتر؛ وكنس الظبي يكنس بالكسر‏.‏ والدهارس‏:‏ بفتح الدال‏:‏ الدواهي، جمع دهرس كجعفر، والدهاريس جمع الجمع‏.‏ والرداء المنير‏:‏ الذي له نير بالكسر، وهو علم الثوب‏.‏ وجارية طفلة بفتح الطاء أي‏:‏ ناعمة‏.‏ والمناسب لقوله غير عانس أن يكون طفلة بكسر الطاء‏.‏ والممكورة‏:‏ المطوية الخلق من النساء، يقال‏:‏ امرأة ممكورة الساقين، أي‏:‏ جدلاء مفتولة‏.‏

وقال ابن السيد‏:‏ الممكورة‏:‏ الطويلة الخلق‏.‏ والعانس بالنون في الصحاح‏:‏ عنست الجارية تعنس عنوساً وعناساً فهي عانس، وذلك إذا طال مكثها في منازل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار، وهذا ما لم تتزوج فإن تزوجت مرة فلا يقال عنست‏.‏ يقول‏:‏ إذا شق هؤلاء النساء اللاتي يلعبن معي بردي شققت أنا أيضاً أرديتهن وبراقعهن حتى نعرى جميعاً‏.‏ ومثل هذا قول رجل من بني أسد‏:‏

كأن ثيابي نازعت شوك عرفطٍ *** ترى الثوب لم يخلق وقد شق جانبه

وسحيمٌ عبد بني الحسحاس من المخضرمين‏:‏ قد أدرك الجاهلية والإسلام‏.‏ ولا يعرف له صحبة‏.‏ وكان أسود شديد السواد‏.‏ وبنو الحسحاس، قال بن هشام في السيرة‏:‏ هم من بني أسد بن خزيمة؛ والحسحاس بمهملات هو ابن نفاثة بن سعد ابن عمرو بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس‏.‏ ومن شعر سحيم‏:‏

إن كنت عبداً فنفسي حرةٌ كرم *** وأسود اللون إني أبيض الخلق

وله القصيدة المشهورة التي مطلعها وهو من شواهد مغني اللبيب‏:‏

عميرة ودع إن تجهزت غادي *** كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

قال المبرد في الكامل‏:‏ وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنةً حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المطلع قال له عمر‏:‏ لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك‏.‏ فقال سحيم‏:‏ ما سعرت يريد ما شعرت‏.‏

وفي الأغاني للأصبهاني من طريق أبي عبيدة قال‏:‏ كان سحيم أسود أعجمياً أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم من شعره روى المرزباني في ترجمته، والدينوري في المجالسة، من طريق علي بن يزيد عن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً؛ فقال له أبو بكر رضي الله عنه إنما قال الشاعر‏:‏

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً

فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم كالأول فقال أبو بكر‏:‏ أشهد إنك لرسول الله، وما علمناه الشعر وما ينبغي له ‏.‏ وقال عمر بن شبة‏:‏ قدم سحيم بعد ذلك على عمر بن الخطاب فأنشده هذه القصيدة، فقال له عمر‏:‏ لو قدمت الإسلام لأجزتك‏.‏

وقتل سحيم في خلافة عثمان‏.‏ قال بن حجر في الإصابة‏:‏ يقال إن سبب قتله أن امرأة من بني الحسحاس أسرها بعض اليهود واستخصها لنفسه وجعلها في حصن له، فبلغ ذلك سحيماً فأخذته الغيرة فما زال يتحيل له حتى تسور على اليهودي حصنه فقتله، وخلص المرأة فأوصلها إلى قومها؛ فلقيته يوماً فقالت له‏:‏ يا سحيم، والله لوددت أني قدرت على مكافأتك على تخليصي من اليهودي‏!‏ فقال لها‏:‏ والله إنك لقادرة على ذلك - عرض لها بنفسها - فاستحيت وذهبت، ثم لقيته مرة أخرى فعرض لها بذلك فأطاعته؛ فهويها وطفق يتغزل فيها، ففطنوا له فقتلوه خشية العار‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سحيم عبد بني الحسحاس‏:‏

الحمد لله حمداً لا انقطاع له *** فليس إحسانه عنا بمقطوع

فقال‏:‏ أحسن وصدق، وإن الله يشكر مثل هذا، ولئن سدد وقارب إنه لمن أهل الجنة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال اللخمي في شرح شواهد الجمل‏:‏ اسم عبد بني الحسحاس سحيم، وقيل اسمه حية؛ ومولاه جندل بن معبد من بني الحسحاس‏.‏ وكان سحيم حبشياً أعجمي اللسان، ينشد الشعر ثم يقول‏:‏ أهشند والله، يريد أحسنت والله وكان عبد الله بن أبي ربيعة قد اشتراه وكتب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ إني قد ابتعت لك غلاماً شاعراً حبشياً‏.‏ فكتب إليه عثمان‏:‏ لا حاجة لي به فاردده، فإنما قصارى أهل العبد الشاعر إن شبع أن يشبب بنسائهم وإن جاع أن يهجوهم‏.‏ فرده عبد الله، فاشتراه أبو معبد فكان كما قال عثمان، رضي الله تعالى عنه‏:‏ شبب ببنته عميرة وأفحش وشهرها‏.‏ فحرقه بالنار‏.‏

فمن ذلك قوله فيها‏:‏

ألكني إليها عمرك الله يافتى *** بآية ما جاءت إلينا تهادياً

وبتنا، وسادانا إلى علجانةٍ *** وحقفٍ تهاداه الرياح تهاديا

وهبت شمالٌ آخر الليل قرةٌ *** ولا ثوب إلا بردها وردائيا

توسدني كفا وتثني بمعصمٍ *** علي وتحوي رجلها من ورائيا

فما زال بردي طيباً من ثيابه *** إلى الحول حتى أنهج البرد باليا

ألكني إليها‏:‏ معناه ابلغ رسالتي إليها‏.‏ والألوك‏:‏ الرسالة‏.‏ وعلجانة‏:‏ شجرة معروفة‏.‏ والحقف‏:‏ ما تراكم من الرمل‏.‏ والقرة بالضم‏:‏ البرد‏.‏ وانهج‏:‏ أخلق‏.‏

وذكر محمد بن حبيب في كتاب من قتل من الشعراء‏:‏ أن سحيماً كان صاحب تغزل، فاتهمه مولاه بابنته، فجلس له في مكان إذا رعى سحيم قال فيه‏.‏ فلما اضطجع تنفس الصعداء ثم قال‏:‏

يا ذكرةً مالك في الحاضر *** تذكرها وأنت في السادر

من كل بيضاء لها كعشبٌ *** مثل سنام الربع المائر

فقال له سيده - وظهر من موضعه الذي كان كمن فيه - ومالك‏؟‏ فلجلج في منطقه‏.‏ فلما رجع وهم على قتله خرجت غليه صاحبته فحدثته وأخبرته بما يراد به؛ فقام ينفض برده ويعفي أثره‏.‏ فلما انطلق به ليقتل ضحكت امرأة كان بينه وبينها شيء فقال‏:‏

إن تضحكي مني فيا رب ليلةٍ *** تركتك فيها كالقباء المفرج

فلما قدم ليقتل قال‏:‏

شدوا وثاق العبد لا يغلبكم *** إن الحياة من الممات قريب

فلقد تحدر من جبين فتاتكم *** عرقٌ على ظهر الفراش وطيب

فقتل‏.‏ انتهى‏.‏

تتمة قال ابن السيد في شرح شواهد الجمل، وتبعه ابن خاف‏:‏ إن سحيماً مصغر أسحم وهو الأسود تصغير ترخيم، ويجوز أن يكون مصغر سحم وهو ضرب من النبات؛ والأول أجود؛ لأنه كان عبداً أسود‏.‏ وأما الحسحاس فالأشبه أن يكون اسماً مرتجلاً مشتقاً من قولهم‏:‏ حسحست الشواء‏:‏ إذا أزلت عنه الجمر والرماد، وقد يمكن أن يكون منقولاً؛ لأنهم قالوا‏:‏ ذو الحسحاس‏:‏ الرجل الجواد؛ قال الراجز‏:‏

محبة الأبرام للحسحاس

فهو قطعاً منقول منه‏.‏ وقوله‏:‏ من حسحست الشواء‏.‏‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ وحسست اللحم وحسحسته بمعنى‏:‏ إذا جعلته على الجمر‏.‏‏.‏ وحسست النار‏:‏ إذا رددتها بالعصا على خبزة الملة والشواء من نواحيه لينضج‏.‏ ومن كلامهم‏:‏ قالت الخبزة‏:‏ لولا الحس ما باليت بالدس‏.‏ فكلامه لا يوافق شيئاً من هذا، فتأمل‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الخامس والتسعون وهو من أبيات سيبويه‏:‏

ضرباً هذاذيك وطعناً وخضا

على أن هذاذيك بمعنى أسرع إسراعين، أي‏:‏ ضرباً يقال فيه هذاذيك‏.‏ أراد أن هذاذيك بمعنى أسرع، وأنه بدل من فعل الأمر‏.‏ ولا يخفى أنه بدل من الهذ، وهو في جميع تصرفاته معناه السرعة في القطع لا السرعة مطلقاً، بل حكم اللحياني في نوادره أن الهذ‏:‏ القطع نفسه‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وكذلك صاحب القاموس، قال‏:‏ هذاذيك‏:‏ قطعاً بعد قطع‏.‏

وهذاذيك ليس بدلاً من فعل الأمر حتى يحتاج إلى تقدير القول ليصح وقوعه وصفاً لما قبله، بل معناه ضرباً يهذ هذاً بعد هذٍ أي‏:‏ قطعاً سريعاً بعد قطع سريع؛ فهو صفة بدون إضمار القول؛ والأنسب تهذ به هذاً، بالخطاب ليظهر كونه مضافاً لفاعله‏.‏

وجوز شراح أبيات سيبويه وأبيات الجمل أن يكون بدلاً من قوله ضرباً، وان يكون حالاً منه على ضعف‏.‏

وقال ابن هشام اللخمي‏:‏ وقيل‏:‏ إن هذاذيك منصوب بإضمار فعل من لفظه، وذلك الفعل في موضع نصب على الصفة للضرب، وذلك الضرب منصوب بإضمار فعلٍ من لفظه؛ كأنه قال‏:‏ تضربه ضرباً يهذ اللحم هذاً بعد هذ، وتطعنهم طعناً وخضاً يردد دمائهم في أجوافهم‏.‏ وقال ابن السيد‏:‏ معنى ضرباً هذاذيك‏:‏ ضرباً يهذك هذاً بعد هذ‏.‏ وهذا عكس المعنى المراد، كأنه ظن أن المصدر مضاف لمفعوله؛ وليس كذلك‏.‏

وهذا البيت من أرجوزة للعجاج مدح بها الحجاج بن يوسف الثقفي، عامله الله بما يستحقه، وذكر فيها ابن الأشعث وأصحابه‏.‏ وقبله‏:‏

تجزيهم بالطعن فرضاً فرض *** وتارةً يلقون قرضاً قرضا

حتى تقضي الأجل المنقض *** ضرباً هذاذيك وطعناً وخضا

يمضي إلى عاصي العروق النحضا

وفيها يقول‏:‏

جاؤوا مخلين فلاقوا حمض *** طاغين لا يزجر بعضٌ بعضا

قوله‏:‏ تجزيهم، الخطاب للحجاج، والضمير المنصوب لابن الأشعث وأصحابه؛ متعد لمفعولين، يقال‏:‏ جزاه الله خيراً‏.‏ والطعن يكون بالرمح، وفعله من باب قتل‏.‏ والفرض بالفاء‏:‏ الحز في الشيء؛ والثاني تأكيد للأول‏.‏ والقرض بالقاف‏:‏ القطع وتقضي بالبناء للفاعل والخطاب أيضاً، يقال قضى حاجته بالتشديد كقضى بالتخفيف‏:‏ أي‏:‏ أتمها‏.‏ والمنقض‏:‏ الساقط، يقال انقض الجدار أي‏:‏ سقط،، وانقض الطائر‏:‏ هوى في طيرانه‏.‏ أي‏:‏ يجازيهم إلى أن يتم أجلهم المنقض عليهم انقضاض الطير على صيده‏.‏

وقوله‏:‏ ضرباً هذاذيك‏:‏ ضرباً إما منصوب بفعل محذوف أي‏:‏ تضربهم ضرباً والجملة حال من فاعل تقضى؛ ويجوز أن يكون منصوباً بنزع الخافض أي‏:‏ بضرب‏.‏ والوخض بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة‏:‏ مصدر وخضه بمعنى طعنه من غير أن ينفذ في جوفه‏.‏ يريد‏:‏ إنك تضرب أعناقهم وتطعن في أجوافهم‏.‏ ويمضي من الإمضاء، يقال أمضيت الأمر‏:‏ إذا أنفذته؛ ومفعوله النحض وهو بفتح النون وسكون المهملة، وهو اللحم‏.‏ وعاصي العروق أي‏:‏ العروق العاصية‏.‏ في الصحاح‏:‏ العاصي‏:‏ العرق الذي لا يرقأ‏.‏ ومخلين‏:‏ اسم فاعل من أخل إذا طلب الخلة بضم الخاء، وهي من النبت ما هو حلو‏.‏ والحمض بفتح المهملة وسكون الميم‏:‏ ما ملح وأمر من النبات كالأثل والطرفاء‏.‏

وترجمة العجاج قد تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين‏.‏

وأنشد بعده وهو الشاهد السادس والتسعون

جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

على أن قولهم‏:‏ هل رأيت وقعت صفة مذق بتقدير القول، يعني أن الجملة التي تقع صفة شرطها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى كالخبر عن الموصوف؛ فجملة هل رأيت‏.‏‏.‏ ظاهرها أنها وقعت صفة لمذق مع أنها استفهامية، والاستفهام قسم من الإنشاء‏.‏ فأجاب بأن التحقيق أنها معمولة للصفة المحذوفة، أي‏:‏ بمذق مقولٍ فيه‏:‏ هل رأيت، ويقول فيه من رآه هذا القول ونحوه‏.‏

وهذا البيت قد كرر الشارح إنشاده في هذا الكتاب؛ فقد أورده في النعت، وفي الموصول مرتين، وفي أفعال القلوب، وفي الحروف المشبهة بالفعل‏.‏ ورواه الدينوري في النبات، وابن قتيبة في أبيات المعاني، والزجاجي وابن الشجري في أماليهما‏:‏ جاؤوا بضيحٍ هل رأيت الذئب قط وقال الدينوري‏:‏ نزل هذا الشاعر بقوم فقروه ضياحاً، وهو اللبن الذي قد أكثر عليه من الماء‏.‏

وقال ابن جني في المحتسب‏:‏ قوله هل رأيت‏:‏ جملة استفهامية إلا أنها في موضع وصف الضيح حملاً على معناها دون لفظها؛ لأن الصفة ضرب من الخبر، فكأنه قال‏:‏ جاؤوا بضيح يشبه لونه لون الذئب‏.‏ والضيح هو اللبن المخلوط بالماء، فهو يضرب إلى الخضرة والطلسة‏.‏

وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا‏}‏، على أن لا تصيبن صفة لفتنة على إرادة القول كهذا البيت‏.‏

والمذق‏:‏ اللبن الممزوج بالماء، وهو يشبه لون الذئب لأن فيه غبرة وكدرة؛ واصله مصدر مذقت اللبن‏:‏ إذا مزجته بالماء‏.‏ وقط استعملت هنا مع الاستفهام مع أنها لا تستعمل إلا مع الماضي المنفي، لأن الاستفهام أخو النفي في أكثر الأحكام‏.‏ لكن قال ابن مالك‏:‏ قد ترد قط في الإثبات‏.‏ واستشهد له بما وقع في حديث البخاري في قوله‏:‏ قصرنا الصلاة في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط ‏.‏ وأما قوله‏:‏

جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

فلا شاهد فيه، لأن الاستفهام أخو النفي‏.‏ وهذا مما خفي على كثير من النحاة‏.‏ انتهى‏.‏

وتبعه الكرماني عليه في شرح هذا الحديث‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ العرب تختصر التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز‏:‏

بتنا بحسانٍ ومعزاه يئط *** ما زلت أسعى بينهم وألتبط

حتى إذا كاد الظلام يختلط *** جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط

يقول في لون الذئب‏.‏ واللبن إذا اختلط بالماء ضرب إلى الغبرة‏.‏ انتهى‏.‏

وبتنا‏:‏ ماضٍ من المبيت؛ في المصباح‏:‏ بات بموضع كدا أي‏:‏ صار به سواء كان في ليل ونهار، وبات يفعل كذا‏:‏ إذا فعله ليلاً، ولا يقال بمعنى نام‏.‏ وحسان‏:‏ اسم رجل، ينصرف إن اخذ من الحسن، ولا ينصرف إن كان من الحسن بالتشديد‏.‏ والمعزى‏:‏ من الغنم خلاف الضأن، وهو اسم جنس، وكذلك المعز، والواحد ماعز، والأنثى ماعزة وهي العنز‏.‏

قال سيبويه‏:‏ ألف معزى للإلحاق بدرهم ى للتأنيث، فهو منون مصروف بدليل تصغيره على معيز، فلو كانت للتأنيث لم يقلبوها ياء كما لم يقلبوها في حبيلى، وهو مضاف إلى ضمير حسان‏.‏ ويئط‏:‏ مضارع أط أي‏:‏ صوت جوفه من الجوع، والمصدر الأطيط، كذا في الصحاح، ويأتي بمعنى تصويت الرحل والإبل من ثقل أحمالها؛ وعليه اقتصر العيني، ولا مناسبة له هنا‏.‏

وروي بعده بيتان زيادة في بعض الروايات وهما‏:‏

يلمس أذنه وحيناً يمتخط

يقال‏:‏ امتخط وتمخط أي‏:‏ استنثر، وربما قالوا‏:‏ امتخط ما في يده‏:‏ نزعه واختلسه، كذا في الصحاح‏.‏

في سمنٍ منه كثيرٍ وأقط

متعلق بقوله يمتخط‏.‏ والسمن بسكون الميم، وفتحها هنا للضرورة‏.‏ والأقط‏:‏ قال الأزهري‏:‏ اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل؛ وهذا يدل على خسته ودنسه‏.‏

ما زلت أسعى بينهم وألتبط

أعاد الضمير من بينهم إلى حسان باعتبار حيه وقبيلته؛ أسعى بينهم أي‏:‏ أتردد إليهم؛ وألتبط‏:‏ أعدو، يقال التبط البعير‏:‏ إذا عدا وضرب بقوائمه الأرض؛ وتلبط‏:‏ اضطجع وتمرغ‏.‏ وروى بدله‏:‏ وأختبط أي‏:‏ أسأل معروفهم من غير وسيلة؛ وهذا يدل على كمال شحهم حيث كان ضيفاً عندهم لم يشبعوه مع أنه يعرض لمعروفهم‏.‏

حتى إذا كان الظلام يختلط

غاية لقوله أسعى وألتبط‏.‏ وكاد‏:‏ قرب‏.‏ وروى‏:‏

حتى إذا جن الظلام واختلط

يريد ستر الظلام كل شيء‏.‏ وصفهم بالشح وعدم إكرامهم الضيف؛ وبالغ في أنهم لم يأتوا بما أتوا به إلا بعد سعي ومضي جانب من الليل، ثم لم يأتوا إلا بلبن أكثره ماء‏.‏

وهذا الرجز لم ينسبه أحد من الرواة إلى قائله‏.‏ وقيل‏:‏ قائله العجاج والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السابع والتسعون وهو من شواهد سيبويه‏:‏

فقالت‏:‏ حنانٌ، ما أتى بك ههن *** أذو نسب أم أنت بالحي عارف

على أن لبيك ودواليك ونحوهما، مصادر لم تستعمل إلا للتكرير، بخلاف حنانيك فإنه يستعمل حنان‏:‏ يريد أن حنانيك لا يلزم أن يكون للتكرير، بل قد يكون له وقد لا يكون، بل قد استعمل مفرداً كما في هذا البيت‏.‏ ويزاد عليه دواليك أيضاً فإنه لا يلزم، وقد استعمل مفرده كما تقدم قريباً‏.‏

والحنان الرحمة، وهو مصدر حن يحن بالكسر حناناً وتحنن عليه‏:‏ ترحم؛ والعرب تقول حنانك يارب، وحنانيك بمعنى واحد أي‏:‏ رحمتك، كذا في الصحاح‏.‏

وقال ابن هشام في شرح الشواهد تبعاً للفارسي في التذكرة القصرية‏:‏ والأصل أتحنن عليك تحنناً، ثم حذف الفعل وزائد المصدر فصار حناناً‏.‏ انتهى‏:‏ وهذا تكلف مع وجود حن يحن‏.‏

وأنشده سيبويه على أن حناناً خبر مبتدأ محذوف، أي شأني حنان والأصل أحن حناناً فحذف الفعل ورفع المصدر على الخبرية لتفيد الجملة الاسمية الدوام‏:‏ وما استفهامية مبتدأ، وجملة أتى بك خبره‏.‏ ثم سألته عن علة مجيئه‏:‏ هل هو نسب بينه وبين قومها، ولمعرفة بينه وبينهم‏؟‏ والمعنى‏:‏ لأي شيء جئت إلى هنا؛ ألك قرابة جئت إليهم، أم لك معرفة بالحي‏؟‏ والصواب تقول موضع فقالت‏.‏

وهذا البيت من جملة أبيات للمنذر بن درهم الكلبي، ذكرها أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب، وياقوت في معجم البلدان عن أبي الندى، وهي‏:‏

سقى روضة الثري عنا وأهله *** ركام سرى من آخر الليل رادف

أمن حب أم الأشيمين وذكره *** فؤادك معمودٌ له ومقارف

تمنيتها حتى تمنيت أن أرى *** من الوجد كلباً للوكيعين آلف

أقول وما لي حاجة في ترددي *** سواها بأهل الروض هل أنت عاطف

وأحدث عهدٍ من أمية نظرةٌ *** على جانب العلياء إذ أنا واقف

تقول‏:‏ حنان ما أتى بك ههن *** أذو نسبٍ أم أنت بالحي عارف‏!‏

فقلت لها‏:‏ ذو حاجةٍ ومسلم *** فصم علينا المأزق المتضايف

قال ياقوت‏:‏ روضة المثري بالثاء المثلثة ويروى بالمثناة‏.‏ وأراد بالوكيعين‏:‏ الوكيع بن الطفيل الكلبي وابنه‏.‏ انتهى‏.‏

والظاهر أن المثري اسم رجل أضيفت الروضة إليه لكونه كان صاحبها؛ وهو اسم مفعول من قولهم‏:‏ ثرى الله القوم أي‏:‏ كثرهم، فالأصل مثروي قلبت الواو ياء وأدغمت عملاًً بالقاعدة، أهلها‏:‏ معطوف على روضة‏.‏ وركامٌ فاعل سقى، وهو بضم الراء السحاب المتراكم بعضه على بعض‏.‏ والرادف نعته، ومعناه الراكب خلف الشيء؛ يريد‏:‏ سحائب مترادفة بعضها خلف بعض‏.‏ وجملة سرى نعت لركام وصف بها قبل الوصف بالمفرد‏.‏

وقوله‏:‏ أمن حب، الهمزة للاستفهام‏.‏ والأشيمين‏:‏ مثنى أشيم، وهو الذي به شامة‏.‏ والمعمود‏:‏ السقيم، يقال عمده المرض أي‏:‏ فدحه، ورجل وعمود وعميد أي‏:‏ هده العشق‏.‏ وله‏:‏ أي‏:‏ للحب‏.‏ والمقارف‏:‏ المقارب، يقال‏:‏ قارفه أي قاربه‏.‏ وآلف‏:‏ اسم فاعل من ألف يألف ألفة، مبتدأ، للوكيعين خبره، والجملة صفة كلب‏.‏

وقوله هل أنت عاطف مقول أقول، وهو خطاب لصاحبه يطلب منه العطف في الذهاب إلى حيها معه‏.‏ وأحدث عهد أي‏:‏ أقرب ما أعهده وأحفظه، وهو مبتدأ ونظرة خبره‏.‏ والعلياء بفتح العين‏:‏ موضع، وكل مكان عال مشرفٍ‏.‏ والمسلم، من التسليم بمعنى التحية‏.‏ وصم بالبناء للمفعول أي‏:‏ سد علينا، من الصمم وهو انسداد الأذن، وصم القارورة أي‏:‏ سدها وأصمها‏:‏ جعل لها صماماً بالكسر وهو مايسد به فمها‏.‏ والمأزق بالهمز كمجلس‏:‏ المضيق، من أزق بالزاي المعجمة والقاف كفرح وضرب أزقاً وأزقا‏:‏ ضاق‏.‏ والمتضايف‏:‏ المجتمع الذي أضيف بعضه على بعض‏.‏

وممن نسب البيت الشاهد للمنذر بن درهم الكلبي، ابن خاف والزمخشري في شرح أبيات سيبويه وفي الكشاف، استشهد به على أن حنانا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحناناً من لدنا‏}‏ بمعنى الرحمة‏.‏ وذكر معه البيت الذي قبله‏.‏

وأنشد بعده وهو الشاهد الثامن والتسعون

أرضاً وذؤبان الخطوب تنوشني

على أن رضاً مصدر حذف فعله وجوباً للتوبيخ، والأصل‏:‏ أترضى رضاً فالهمزة للإنكار التوبيخي، وهو يقتضي أن ما بعدها واقع وفاعله ملوم، والواو واو الحال‏.‏ والذؤبان‏:‏ جمع ذئب جمع كثرة؛ والخطوب جمع خطب بالفتح، وهو الأمر الشديد ينزل على الإنسان؛ والإضافة من قبيل لجين الماء، أي‏:‏ المصائب التي كالذئاب‏.‏ وتنوشني مضارع ناشه نوشاً، أي‏:‏ تناله وتصيبه‏.‏ وجملة تنوشني خبر المبتدأ الذي هو ذؤبان‏.‏ والجملة الاسمية حال من فاعل الفعل المحذوف‏.‏

وأنشد بعده وهو

الشاهد التاسع والتسعون وهو من شواهد سيبويه‏:‏ فاها لفيك

وهو قطعة من بيت وهو‏:‏

فقلت له‏:‏ فاها لفيك فإنه *** قلوص امرئٍ قاريك ما أنت حاذره

على أن فاها لفيك وضع موضع المصدر، والأصل فوها لفيك؛ فلما صارت الجملة بمعنى المصدر أي‏:‏ أصابته داهية، أعرب الجزء الأول بإعراب المصدر فصار فاها لفيك‏.‏ وقيل فاها منصوب بفعل محذوف أي‏:‏ جعل الله فا الداهية إلى فيك‏.‏ ولهذا الوجه أنشده سيبويه‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه قوله فاها لفيك أي‏:‏ فم الداهية ونصبه على إضمار فعل، والتقدير‏:‏ ألصق الله فاها لفيك وجعل فاها لفيك‏.‏ ووضع موضع دهاك الله فلذلك لزم النصب لأنه بدل من اللفظ بالفعل فجرى في النصب مجرى المصدر‏.‏ وخص الفم في هذا دون سائر الأعضاء، لأن أكثر المتالف يكون منه بما يؤكل ويشرب من السموم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه فم الخيبة لفيك، فمعناه على هذا خيبك الله‏.‏

ومثله لأبي زيد في نوادره، قال‏:‏ وإذا أراد الرجل أن يدعو على رجل قال‏:‏ فاها لفيك أي‏:‏ لك الخيبة‏.‏ قال الأخفش فيما كتبه على نوادره‏:‏ والذي أختاره ما فسره الأصمعي وأبو عبيدة فإنهما قالا‏:‏ معنى قولهم فاها لفيك‏:‏ ألصق الله فاها لفيك، يعنون الداهية والهلكة‏.‏

والأول تقدير سيبويه، وكلاهما صحيح‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت له أي‏:‏ لهواس، وهو الأسد‏.‏ وقوله‏:‏ فإنها أي‏:‏ راحلتي والقلوص‏:‏ الناقة الشابة‏.‏ وعنى بامرئ نفسه‏.‏ وقوله قاريك أي‏:‏ يجعل موضع قراك وما يقوم لك مقام القرى ما أنت حاذره من الموت، أي‏:‏ ليس لك قرى عندي غير القتل، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذابٍ أليم‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ يفسر فاها لفيك‏:‏ أن الشاعر لما غشي الأسد ضربه ضربة واحدة فعض التراب فقال له‏:‏ فاها لفيك يعني فم الأرض‏.‏

قال سيبويه‏:‏ والدليل على أنه يريد بقوله فاها فم الداهية قول عامر بن جوين الطائي‏:‏

وداهية من دواهي المنو *** ن يحسبها الناس لا فا لها

دفعت سنا برقها إذا بدت *** وكنت على الجهد حمالها

ومعنى لا فا لها‏:‏ لا مدخل إلى معاناتها والتداوي منها، أي‏:‏ هي داهية مشكلة والمنون‏:‏ الموت‏.‏ وفا منصوب بلا، واللام مقحمة والخبر محذوف أي‏:‏ في الدني وفيما يعلمه الناس‏.‏ والسنا هو الضوء، يريد‏:‏ أنه دفع شرها والتهاب نارها حين أقبلت، وكان هو حمال ثقلها‏.‏

والبيت الشاهد من أبيات أولها‏:‏

تحسب هواسٌ وأيقن أنني *** بها مفتدٍ من واحد لا أغامره

ظللنا معاً جارين نحترس الثأى *** يسائرني، من ختله، وأسائره

فقلت له فاها لفيك‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

تحسب بمعنى حسب بالتخفيف، وقيل‏:‏ هو بمعنى تحسس، يقال‏:‏ فلان يتحسس الأخبار أي‏:‏ يتجسس، وقيل‏:‏ تحسب في معنى حسبته فتحسب مثل كفيته فاكتفى؛ قال النحاس‏:‏ معنى تحسب اكتفى‏.‏

وكذلك قال الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد عن المبرد أنه قال‏:‏ معنى تحسب اكتفى، من قولك حسبك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عطاءً حساباً‏}‏ أي‏:‏ كافياً‏.‏ وتقول العرب‏:‏ ما أحسبك فهو لي محسب، أي‏:‏ ما كفاك فهو لي كاف‏.‏

والهواس‏:‏ الأسد‏.‏ سمي هواساً لأنه يهوس الفريسة، أي يدقها، والهوس‏:‏ الدق الخفي؛ وقيل‏:‏ الهواس‏:‏ الذي يطأ وطئاً خفياً حتى لا يشعر به‏.‏

قال السيرافي‏:‏ معناه‏:‏ أنه عرض الأسد لناقة هذا الشاعر فحكى عن الأسد أنه توهم أنني أدع الناقة وأفتدي بها من لقاء الأسد ولا أغامره ولا أقاتله ولا أرد معه غمرات الحرب‏.‏ والرواية‏:‏ تحسب هواس وأقبل، وروي أيضاً‏:‏ من صاحب لا أغاوره أي‏:‏ أغور عليه ويغور علي‏.‏ وروى‏:‏ لا أناظره‏.‏ والثأى بالمثلثة والهمز على وزن الفتى‏:‏ الخرم والفتق‏.‏ والختل‏:‏ المكر والخداع‏.‏

وهذه الأبيات، قال الجرمي‏:‏ هي لأبي سدرة الأعرابي‏.‏ وقال أبو زيد في نوادره‏:‏ إنها لرجل من بني الهجيم‏.‏ وهما شيء واحد، قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب‏:‏ أبو سدرة هو سحيم بن العرف من بني الهجيم بن عمرو بن تميم‏.‏ وله مقطعات مليحة منها قوله في حسان بن سعد عامل الحجاج على البحرين‏:‏

إلى حسان من أكناف نجدٍ *** رحلنا العيس تنفخ في براها

نعد قرابةً ونعد صهر *** ويسعد بالقرابة من رعاها

فما جئناك من عدمٍ ولكن *** يهش إلى الإمارة من رجاها

وأياً ما أتيت فإن نفسي *** تعد صلاح نفسك من غناها

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏.‏ وفيه وفي قبيلته يقول جرير‏:‏

وبنو الهجيم قبيلةٌ مذمومةٌ *** صفر اللحى متشابهو الألوان

لو يسمعون بأكلة وشربةٍ *** بعمان أصبح جمعهم بعمان

يريد‏:‏ أنهم يوقدون البعر فتصفر لحاهم بدخانه‏.‏

وهو شاعر إسلامي من معاصري جرير والفرزدق‏.‏